هناك مقولة شهيرة معروفة بشكل كبير ومنتشرة بين الوسط الشعري والأدبي حول المعنى الذي يقصده الشاعر من قصيدته الشعرية، وحول المعاني والإسقاطات التي تحويها كذلك القصيدة الشعرية، وهو القول بأن “المعنى يظل في بطن الشاعر”. وخلال سطور هذه المقالة سوف نحاول فك طلاسم واحدة من أبرز القصائد الشعرية في العصر الحديث من الشعر العربي للشاعر المصري محمود غُنيم وسوف نقدم اليوم شرح قصيدة جمال الريف.
من هو محمود غُنيم؟
الشاعر المصري محمود غُنيم هو واحد من أبرز وأعمق الشعراء المصريين الذين برزوا بشدة خلال العصر الحديث من الشعر العربي، وكان غُنيم كذلك واحدًا من أبرز من أثروا التراث الشعري والأدبي العربي بإنتاجه الأدبي الغزير، الذي كان ولايزال مرجع هام لكافة الشعراء العرب إلى وقتنا هذا. تمتع الشاعر المصري محمود غُنيم بموهبة فريدة فرضت أسمه على ساحة الأدب والشعر في العصر الحديث.
موُلد ونشأة محمود غُنيم
وُلد الشاعر المصري محمود غنيم في إحدى قرى محافظة المنوفية – إحدى محافظات مصر – والتي تُعرف باسم ” قرية مليج” في العام 1902م، حيث عاش الشاعر المصري محمود غنيم سنوات طفولته وشبابه وصباه بقريته بمحافظة المنوفية، قبل أن ينتقل للعمل في القاهرة ويستقر بها حتى وفاته عام 1972م. لعبت نشاة الشاعر محمود غُنيم في قرى م قرى الأرياف في مصر دور حيوي وفعال في تبلور موهية وشخصية الشاعر المصري، حيث تأثر غنيم كثيرًا بحياة الريف وجمال الطبيعة بها وبساطة العيشة البعيدة تمامًا عن التعقيد تلمعروف في المدن والحضر.
دراسة الشاعر
تعلم الشاعر المصري محمود غنيم في مدرسة قريته التي أتم فيها كذلك حفظ القرأن الكريم كاملًا، ومن انتقل إلى المعاهد الدينية التي أكمل بها دراسة الثانوية في عام 1924م، وبعد أن أتم تعليمه الثانوي في المعاهد الدينية التحق الشاعر المصري محمود غنيم بكلية دار العلوم ليكمل دراسته الجامعية بها عام 1924م.
بعد تخرج الشاعر المصري محمود غنيم من كلية دار العلوم بعد أن قضى بها أربع سنوات تولى منصب مدرس للغة العربية في ‘حدى مدارس مدينة كوم حمادة لمدة تجاوزت التسع سنوات، ومن ثم انتقل غنيم إلى القاهرة ليتولى منصب مدير مدرسة الأورمان، ومن هنا بدأ تدرجه الوظيفي حيث تمت ترقيته لدرجة مفتش في اللغة العربية، ثم تولى منصب عميد اللغة العربية في وزارة التربية والتعليم حتى توفى في العام 1972م.
قصيدة جمال الريف
قصيدة جمال الريف تُعد واحدة من أجمل وأروع القصائج التي ألفها الشاعر المصري محمود غنيم، وواحدة من أبرز إنتاجه الفني والشعري، فقد ترك الشاعر المصري محمود غنيم خلفه تراث شعري وأدبي كبير، كانت قصيدة جمال الريف واحدة من العلامات المضيئة في ذلك الترث الشعري. في تلك القصيدة الشعرية الجميلة ضمن الشاعر المصري محمود غنيم معاني وصور شعرية غاية في الجمال، نجح من خلالها بالفعل أن يجسد جمال الريف المصري ومنظره الساحر الذي يُبهر العيون، وخلال السطرو القادمة سوف نتناول شرح قصيدة جمال الريف للشاعر المصري محمود غنيم.
شرح قصيدة جمال الريف
تمتع الشاعر المصري محمود غنيم بأسلوب شعري مميز وفريد، وهو ما جعله يمتلك موهبة شعرية لا مثيل لها، وكانت تلك الموهبة الكبيرة متأثرة بثقافة ونشاة الشاعر التي انعكست بشكل واضح على ما أنتجه من شعر خلال الفترة التي عاش فيها وبدأت موهبته في الظهور اللمعان في الوسط الأدبي والشعري، وانعكس كذلك على التنوع في القضايا والمواضيع التي تناولها الشاعر في قصائده الشعرية الكثيرة والمشهورة. فقد ترك الشاعر المصري محمود غنيم خلفه دواوين شعرية تحمل اسم “صرخة في واد” وديوانُ “في ظلال الثورة”، وقد شبهه الكثيرون بأنه خليفة الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، نسبه إلى أسلوبه وموهبته العظيمة. وتلك القصيدة التي سوف نتناولها بالشرح والتفسير تعد من أبرز قصائده التي تعكس أسلوبه الشعري الفريد:
زعموكَ مرعًا للسَوام وليتَهم زعموكَ مرعًا للعقولِ خَصيبَا
فهيَ القرائحُ أنتَ مصدرُ وحيها كم بتَّ تُلهِم شاعرًا وخطِيبا
حيَّيتُ فيكَ الثابتين عقائدًا والطَّاهرينَ سرائرًا وقُلوبا
والذَّاهبات إلى الحقول بواكرًا يمشي العفافُ ورائهنَّ رقيبا
سلبتْ عذاراكَ الزهورَ جمالَها فبكَتْ تريدُ جمالَها المسلوبا
كسَت الطَّبيعة وجهَ أرضِكَ سُندسًا وحبَتْ نسيمَك إذ تضوَّع طيبا
بسطٌ تظلِّلها الغصون كما انحنَت أمٌّ تقبِّل طفلَها المحبوبا
وبدا النخيلُ غصونُه فيروزجٌ يحملنَ من صافِي العقيقِ حبوبا
سربانِ من بطٍّ وبيضٍ خرَّدٍ يتباريانِ سباحةً ووثوبا
في الرّيف فتيانٌ تسيل جباههُم عرقًا فيصبحُ لؤلؤًا مثقوبَا
لا فتيةٌ مردٌ بأيدٍ بضَّةٍ في كلِّ يومٍ يلبسونَ قشِيبا
ففي هذه القصيدة – قصيدة جمال الريف – يجسد الشاعر المصري محمود غنيم جمال الريف المصري وأبرز ملامحه المميزة له ولهوية الريف، فقد تطرق الشاعر لكل ملمح من ملامح الريف المصري بالوصف والتجسيد والتصوير الأخاذ الساحر الذي يميز أسلوب محمود غنيم “الفلاح المصري”، وسوف نتناول شرح قصيدة جمال الريف بكل أبياتها الشعرية فيما يلي:
- البيت الأول: يوجِّهُ الشاعر خطابه إلى الريف قائلًا له: لقد قال النَّاسُ حسب زعمهم إنَّكَ مرعى للماشية وحسب، ويا ليتهم قالوا لنا إنَّك كنت مرعى ترعى فيه العقول فتزداد مداركها ومعارفها من جمالك وسحرك.
- البيت الثاني: وكم كنت مصدرًا ومنبعًا للكثير من القرائحَ وكنتَ دائمًا المكان الذي يوحي إلى الشعراء والخطباء بأشعارهم وكتاباتهم.
- البيت الثالث: وإني أوجِّهُ تحيَّتي لأهلكَ الذين يتَّصفون بثبات العقيدة والمبادئ النقية وطهارة النفوس وصفاء القلوب.
- البيت الرابع: وإنَّ الفتيات في الريف يذهبن في الصباح الباكر إلى العمل في الحقول والعفافُ الذي يتميَّزنَ به يمشي وراءهنَّ كإنسانٍ يراقبُ خطواتهنَّ.
- البيت الخامس: لقد أخذَت فتيات الريف الجمالَ من زهور الطبيعة، فصارت تبكي الزهور حتى تستعيدَ جمالها من الفتيات اللواتي صرنَ أجمل من الزهور.
- البيت السادس: لقد غطَّت الطبيعةُ الساحرةُ أرضكَ أيها الريف بالحرير والديباج الرقيق ومنحَت الرائحةَ العطرة الطيبة للنسائمِ التي تهبُّ في أرضك.
- البيت السابع: وإن أرضكَ الخضراءَ مثل البسط المفروشة والتي تميلُ عليها الغصون بظلالها كأنَّها أمٌّ تقبِّل طفلها المحبَّب إليها.
- البيت الثامن: لقد ظهرت أغصان شجر النخيل كأنها الفيروزج وهو الحجارة الكريمة التي يميلُ لونها إلى الخضرة، وأشجار النخيل هذه تحملُ ثمارًا من العقيق وهي نوع من الحجارة الكريمة حمراء اللون.
- البيت التاسع: إن أسرابَ البطِّ وأسراب الفتيات الجميلات يتسابقنَ فيما بينهنَّ في السباحة والقفز.
- البيت العاشر: والريف هو موطنُ الفتيان الحقيقين الأقوياء الذين يجدُّون في عملهم فتسيلُ قطرات العرق على جباههم الطاهرة كحبات الؤلؤ المثقوبِ.
- البيت الحادي عشر: ولا يوجدُ في الريف فتيةٌ أياديهم بيضاء ناعمة يلبسون كلَّ يومٍ ثيابًا جديدةً بيضاء ناصعةً ما يدلُّ على رفاهيتهم وابتعادهم عن الجدِّ والكدِّ في العمل.